التكنولوجيا والدماغ, لقد احتلت التكنولوجيا جزءاً كبيراً من حياتنا بنواحيها المختلفة ، بل و أصبحت تسيطر على أغلب تعاملاتنا و أعمالنا اليومية ،
و مما لا شكّ فيه أنها جعلت الحياة أكثر سهولة و راحة ، حتى بات لا يوجد شيء طبيعي لم يصمّم على غراره ما يوازيه تكنولوجياً ، و يشمل ذلك كافة القطاعات ؛الصحية ، والتعليمية ، و المعلوماتية و……… إلخ .
تساعد التكنولوجيا في معالجة و تخزين كميات ضخمة من المعلومات في شتى المواضيع ،
و تمكن البشر من التفاعل مع بعضهم البعض بسرعة و كفاءة عالية عبر منصات التواصل الاجتماعي و شبكة الإنترنت ،
حتى أصبح العالم كقرية صغيرة يتوزع سكانها في أقطار الارض جميعها.
لكن التكنولوجيا الرقمية سلاحٌ ذو حدّين ؛ فبالرغم من فوائدها الهائلة و المتجددة
إلا أن لها تأثيراً كبيراً على الصحة العقلية ، و الجسمية ، و حتى النفسية اذا ما أساء الفرد استخدامها ،
و في هذا المقال ، سنختص بتفصيل تأثير التكنولوجيا الرقمية على الدماغ البشري .
المحتويات:
الدماغ و تعامله مع الأجهزة الإلكترونية
الآثار السلبية للتكنولوجيا على الدماغ
الدماغ و تعامله مع الأجهزة الإلكترونية :
يتمثل عمل الدماغ في الجسم و تفاعله مع المتغيرات و المنبهات المختلفة بإفراز ٦ أنواع رئيسية من المواد الكيماوية المحفزة للجهاز العصبي ،و هي:
١.الأندروفين : وهو مسكن الآلام الطبيعي في الجسم ،
و يتم إفرازه عند الشعور بالامتنان ، أو ممارسة رياضة التأمل ، و تمارين التنفس.
٢. الدوبامين : و هو الهرمون المرتبط بالمتعة و المكافأة ، و الإدمان أيضاً ،
لذا ، فقد تم تصميم الأجهزة الرقمية و التقنيات التكنولوجية بالتركيز على تحفيز هرمون الدوبامين .
٣. الادرينالين : و يعرف بهرمون الاستجابة السريعة ( المواجهة أو الفرار) ،
و يفرز في حالات التعرض لخطر أو هجوم مفاجئ، أما عن علاقته بالتكنولوجيا الرقمية ؛
فإنه يفرز عند التفاعل بالإعجاب بشيء ما على وسائل التواصل الاجتماعي ، أو محاولة لفت الانتباه.
٤. السيروتونين : و يفرز هذا الهرمون عند الشعور بالإبداع ، أو الإسهام بدور إيجابي في موقف ما .
٥. الأوكسيتوسين : يقوم الجسم بإفرازه عند الشعور بتفاعل وجداني إيجابي مع شخص ما ،
و قد يستغل بعض مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي المشاعر الناتجة عن إفراز هذا الهرمون
لاستدراج الأطفال أو المراهقين ، واستغلالهم ، ثم ابتزازهم.
٦. الكورتيزول : و هو الهرمون المسؤول عن الاستجابة للضغوط النفسية ،
حيث يتم إفرازه في حالات اضطراب النوم ، أو التعب ، أو التشتت الذهني و ما إلى ذلك …
**
إن طريقة الفرد في التعامل مع الأجهزة الإلكترونية و التكنولوجيا هي ما يحدد مدى انتفاعه أو تضرره منها ،
فقد أثبتت الدراسات أن الاستخدام المفرط للألعاب الإلكترونية أو مواقع التواصل الاجتماعي يؤثر سلباً على خلايا الدماغ و سلوكه العام ،
فيما أثبتت دراسات أخرى أن لبعض الألعاب الإلكترونية و برامج الكمبيوتر دور في تحسين الذاكرة و زيادة النشاط العصبي للدماغ و مهارات المهام المتعددة .
و يعد استخدام التكنولوجيا مفرطاً إذا منع الفرد من القيام بالأعمال الأساسية خلال يومه ؛
كممارسة الرياضة و الاستمتاع بالهواء الطلق و التعرض للإضاءة الطبيعية ؛ كأشعة الشمس مثلاً.
و في دراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا الأمريكية لرصد سلوك الدماغ عند التعامل مع التكنولوجيا الرقمية ،
فقد تبين أن هناك جزءًا في الجانب الأمامي الأيسر من الدماغ ينشط عصبياً عند بدء التعامل مع تكنولوجيا الإنترنت ،
و هذا الجزء تحديداً هز المسؤول عن اتخاذ القرارات و تحليل المعلومات المعقَّدة ، كذلك الدمج بين مشاعر الفرد و أفكاره، بل و يتحكم بعمل الذاكرة قصيرة المدى التي يكون الاعتماد عليها كبيراً عند تصفح الانترنت ،
ويستمر هذا النشاط العصبي بالزيادة إلى حدّ يصل فيه إلى الثبات بمستوى معين بعد فترة من استخدام الإنترنت ،
هذا ما يؤكد تأثير التكنولوجيا على طبيعة الدماغ البشري و سلوكه العام .
لذا ، فإن الأوقات التي يقضيها الفرد في عالمه الرقمي تعيد تشكيل طريقة عمل دماغه شديد المرونة و الحساسية ،
و تبني شبكات عصبية جديدة لمهارات و خبرات جديدة قد تقضي على المهارات التي كان يتمتع بها سابقاً و لم يعد يمارسها ،
ومن أهمها ؛ التواصل الاجتماعي المباشر (وجهاً لوجه).
الآثار السلبية للتكنولوجيا على الدماغ:
أطلقت خبيرة البرمجيات الامريكية (ليندا ستون)
على الحالة التي يوزع فيها الإنسان انتباهه بين أكثر من شيء دون التركيز الحقيقي على شيء بعينه مصطلح الانتباه الجزئي المستمر ،
و هذه الحالة تمثل عبئاً كبيراً على الدماغ الذي يقوم بتحفيز الجسم لإطلاق هرمونات التوتر و الضغط النفسي ( الكورتيزول و الادرينالين ) ،
و بدورها تقوم هذه الهرمونات برفع طاقة الجسم و زيادة حدة الذاكرة على المدى القريب ،
لكن أثرها السلبي شديد الضرر يظهر لاحقاً فيما تسببه من إجهاد ، و توتر ، و تدني في الطاقة البدنية ،
و كذلك الشعور بالكآبة و العزلة ؛ نتيجة تأثر مسارات السيالات العصبية في مناطق الدماغ المسؤولة عن الحالة النفسية بها.
و فيما يلي ، سنعرض أبرز المشكلات التي يسببها الإفراط في استخدام التكنولوجيا ، و التعرض للإشعاعات المنبعثة من الأجهزة الإلكترونية :
1. الإضرار بالقدرات العقلية و المعرفية:
حيث أن الجلوس أمام الأجهزة الإلكترونية لفترات طويلة و خاصة من قبل الأطفال
يؤثر سلباً على صحة مسارات المادة البيضاء الخاصة بعمليات القراءة و الكتابة ،
مما يعني انخفاض الاتصال بين الأجزاء المسؤولة عن التعرف على الكلمات و تكوين اللغة و التحكم المعرفي في الدماغ .
و أثبتت الدراسات أن قضاء الأطفال في عمر مبكر (عامين فما فوق) أكثر من ساعة واحدة يومياً أمام الشاشة
يؤدي إلى ضعف أدائهم التنفيذي و تطورهم اللغوي ، أما إذا كان منظماً و مصحوباً بتفاعل الوالدين فيمكن أن يوجّه ليصبح تعليمياً.
اقرأ هرمون النمو
و مقارنة بالقراءة ، فإن التكنولوجيا تساعد الدماغ على تخزين المعلومات بسرعة ،
أما القراءة فتحفزه على التفكير ، و الخيال ، و ترفع مستوى التركيز فيه .
و لقد أثبتت الدراسات أن استخدام التكنولوجيا بشكل مفرط يؤثر سلباً على الذاكرة ،
حيث أن المعلومات التي تؤخذ عن طريق الانترنت أو تلك التي يتم الحصول عليها بالطرق التكنولوجية تبقى مخزنة في الدماغ لفترة بسيطة ،
و سرعان ما يتم دخولها في دائرة النسيان ، و يعزز ذلك إلى حدوث اختلالات و تغيرات في الخلايا العصبية للدماغ .
٢.تشتت الانتباه و فرط الحركة:
استناداً إلى عدة دراسات ناشئة ، فإن هناك علاقة بين استخدام الأجهزة الإلكترونية و أعراض اضطراب نقص الانتباه و فرط الحركة ADHD ،
و ظهرت هذه النتائج بعد تجارب و فحوصات عديدة أجريت لأطفال و مراهقين ،
ليتم تعميم ارتباط التكنولوجيا بضعف الانتباه و فرط الحركة على كل الأعمار،
و في الواقع ، إن السبب الدقيق وراء ذلك لم يزل غير محدد ،
لكن قد يرجع ذلك إلى تعدد المهام التي يقوم بها الفرد عند استخدام الأجهزة الإلكترونية و تغير مواضع الانتباه ،
و قد يرتبط ذلك بعدم السماح للدماغ بالدخول في وضع الراحة الافتراضي له بسبب نقص التفاعل مع المحيط الخارجي خارج العالم الإلكتروني.
.
٣.اضطرابات النوم:
إن الطول الموجي للضوء المنبعث من شاشات الأجهزة الإلكترونية يؤثر على ساعة الجسم البيولوجية التي تنظم النوم،
إذ تقوم هذه الشاشات بإرسال موجات بطيئة من الضوء الأزرق الذي يتداخل مع إيقاعات ساعة الجسم البيولوجية ،
فيؤدي ذلك إلى حدوث تغيرات في نسب هرمون الميلاتونين مما يغير من نوعية النوم و يؤثر سلباً على الأداء المعرفي.
و تشير الدراسات إلى أن تعرض الأطفال الزائد للشاشات يسبب تعطّل النوم ، و يؤثر على إدراكهم و سلوكهم،
أما عن الرضع ؛ فقد يتسبب ذلك بانهيار نظام النوم لديهم ، فتتأثر بداية نومهم و مدته و يتكرر استيقاظهم ليلاً ،
و يصل الضرر إلى المراهقين الذين يعانون من اضطرابات النوم و ضعفه و قلة جودته ،
و كذلك البالغين الذين كلما زاد استخدامهم للأجهزة الإلكترونية قصُرت مدة نومهم و قلت كفاءته.
٤. ضعف الذكاء الاجتماعي :
إن الوقت الذي يقضيه الفرد على وسائل التكنولوجيا المختلفة
يؤخذ بطبيعة الحال من وقته في التواصل مع الأشخاص وجهاً لوجه ،
و هذا ما دعا بعض الباحثين لربط قضاء فترات طويلة على مواقع التواصل الاجتماعي بالإصابة بالعزلة الاجتماعية،
حيث يفقد الفرد قدرته على التواصل الواقعي مع الآخرين بصورة طبيعية ،
و يفتقر إلى القدرة على بناء علاقات جيدة معهم، و قد يؤدي ذلك في بعض الحالات إلى الإصابة بالاكتئاب، بل و زيادة معدل الوفيات.
٥.ضعف الذكاء العاطفي :
في تجربة قام بها كريتش و ماونتس على مجموعة من الأشخاص (بأعمار من ١٧-٢٣ عام )
الذين قاموا بلعب ألعاب إلكترونية قائمة على العنف قبل بدء الاختبار،
ثم عرض عليهم فيديو يظهر تغير تعابير الوجه من السعادة الى الغضب، و طلبوا منهم تمييزها بسرعة ،
وجد الباحثان أن هؤلاء الأشخاص استطاعوا تمييز تعابير الوجه السعيدة بسرعة و سهولة
لكنهم لم يستطيعوا تمييز تعابير الغضب بنفس السرعة و اليسر،
و هذا يؤكد أن الأجهزة الإلكترونية تؤثر سلباً على الذكاء العاطفي و القدرة على تمييز المشاعر .
٦.الإدمان الإلكتروني:
يعد إدمان التكنولوجيا مشكلة حقيقية يتعرض لها مستخدمو التكنولوجيا الرقمية خاصة المراهقين منهم ،
إذ يقضي الواحد منهم معظم يومه في تصفح الانترنت ، و تطبيقات التسوق الالكتروني، و التجول بين مواقع التواصل الاجتماعي أو ألعاب الفيديو .
و على الرغم من عدم إضافة إدمان التكنولوجيا رسمياً إلى الدليل التشخيصي و الإحصائي للاضطرابات العقلية ؛
إلا أن استخدام الإنترنت بشكل مفرط و مرضيّ يعد إدماناً يشترك في سماته مع اضطرابات إدمان المخدرات أو المقامرة ،
حيث أن حصول الفرد على تفاعل بالإعجاب مثلاً على أحد مواقع التواصل الاجتماعي ،
أو تحقيقه للفوز في أحد ألعاب الفيديو يحفز لديه إفراز هرمون الدوبامين في الجسم ،
و مع استمرار حدوث ذلك ، يعتاد الجسم على كمية معينة من هرمون الدوبامين تلبي حاجته للوصول إلى الراحة ،
فيستمر الفرد لاإرادياً بالانغماس في وسائل التكنولوجيا المختلفة ؛ للتحقيق هدف الجسم في إفراز أكبر كمية من الناقل العصبي ( الدوبامين ) .
و للإدمان الإلكتروني أربعة أنواع: إدمان شبكة الإنترنت، و إدمان الألعاب الإلكترونية ، و إدمان مواقع التواصل الاجتماعي ، و إدمان الأجهزة المحمولة .
تشترك اضطرابات الإدمان بأنواعه – و منها إدمان التكنولوجيا – في سمات عدة ،
تتمثل بتقلبات المزاج ، و التراجع الوظيفي ، وكثرة الانشغالات ، والانسحاب ، وغيرها .
و علاوة على ذلك ؛ قد يؤدي الإدمان الإلكتروني إلى نقص المادة البيضاء و المادة الرمادية في الدماغ ،
ايضا انكماش الدماغ، و دفع الفرد إلى العدوانية ، و التصرف باندفاعية و انفعال.
تمثل نسبة الإدمان الإلكتروني في العالم ٦% تقريباً ، لكنها ترتفع في مناطق الشرق الأوسط و مناطق أخرى لتصل إلى ١١%.
قد أكدت الدراسات أن الأشخاص الذين يعانون من أعراض تشتت الانتباه و فرط الحركة هم أكثر عرضة من غيرهم لإدمان التكنولوجيا ،
و منهم من قال أن إدمان التكنولوجيا هو ما يسبب أعراض اضطراب تشتت الانتباه و فرط الحركة ، و تبقى العلاقة السببية بينهما غير مؤكدة .
و ختاماً ، فإنه لا يمكن إنكار ما قدمته التكنولوجيا للعالم من فوائد ؛
مثل التقريب الإلكتروني للمتباعدين جغرافياً ، و معرفة أخبار العالم لحظة بلحظة ،
و إتمام الكثير من الأعمال بكبسة زر ، و كذلك جعل الحياة أكثر راحة و سهولة ، و يشمل هذا مجالات الحياة كافة ،
لكن من ناحية أخرى ،
لا بد ّ من ضبط الانغماس البشري في عالم التكنولوجيا ،
و محاولة انتشاله من قعر الاستخدام المفرط و – غير المعقول أحياناً – لوسائل التكنولوجيا المتعددة ؛
لئلا يؤدي ذلك إلى جعل العقل البشري طفولياً تماما ، و منعه من التعرض لفرط الحساسية ، و التشتت ، و فقدان القدرة على التركيز ، و بالتالي ، فقدان الهوية .
المراجع
مرجع 1 , مرجع 2 , مرجع 3 , مرجع 4 , مرجع 5
اكتشاف المزيد من LoveyDoveye
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.